حين كتب ممدوح عدوان كتابه “حيونة الإنسان”، كان يضع إصبعه على جرح العالم العربي: كيف يتحوّل البشر إلى أدوات بيد السلطة؟ كيف يتخلى الجلاد عن ضميره، ويتحوّل السجين إلى كائن مسحوق يطلب الرحمة من قاتله؟
لكن مازن الحمادة لم يكن من أولئك الذين تُكسر إنسانيتهم في الزنزانة.
بل خرج من الجحيم ليحكي عنه. فكان لا بد أن يُقتل مرّتين: مرة في السجن، ومرة عندما تجرأ على البوح.
بين دير الزور وصيدنايا: رحلة نحو الصمت الأبدي
مازن، ابن دير الزور، عمل في شركة نفط، لكنه انحاز منذ الأيام الأولى للثورة إلى صوته الداخلي: “لا للظلم”.
اعتُقل عام 2011، وهناك تعرّف على وحشية النظام؛ عُلّق من معصميه، كُسرت أضلاعه، وذُلّ جسده حتى كاد يفقد الإحساس بنفسه.
لكنه خرج. لا ليلتزم الصمت، بل ليتحدث.
هرب إلى أوروبا عام 2014، وفي كل محطة وقف يُصرخ:
“كنتُ إنسانًا يُعذّبني إنسان، أمام إنسان، داخل نظام لا يعرف شيئًا عن الإنسان.”
عندما خاف الوحش من الشاهد
ظهر في تقارير تلفزيونية، وشارك في جلسات تحقيق دولية. شهادته أمام منظمة العفو الدولية كانت خنجرًا في خاصرة النظام.
لم يكن مجرد اسم؛ كان ضميرًا.
لكن الأنظمة العسكرية لا تسامح من يُبقي شعلة الذاكرة مشتعلة.
عاد إلى سوريا عام 2020 بعد وعودٍ “مفخخة”. فاختفى فورًا.
قيل إنهم استقبلوه بالأحضان. لكن الأذرع الأمنية تعرف حضنًا واحدًا: الكلابيش والركلات.
في ديسمبر 2024، بعد أربع سنوات من الاختفاء، وُجدت جثته في سجن صيدنايا. جسد مهترئ، يحمل آثار انتقام، لا تحقيق.
جثة تنطق: “لا خلاص للذي يكشف الوحش.”
حيونة الإنسان… حين يفقد الجلاد ملامحه
كتب ممدوح عدوان:
“الخوف يصنع جلادين، والجوع يصنع عبيدًا، والصمت يصنع مقابر.”
في صيدنايا، لا يُعاد تشكيل الإنسان، بل يُنتزع منه كل ما يربطه بالبشر:
- لا اسم لك، بل رقم.
- لا مستقبل، فقط انتظار.
- لا صوت، إلا تأوهات من سبقك.
لكن مازن لم يفقد صوته. خرج ليكتب تاريخهم بدمه.
ولذلك… خافوه.
ولذلك… قتلوه.
لا أحد ينجو من قول الحقيقة
حتى بعد خروجه من البلاد، لم يكن آمنًا.
لم يكتفوا باعتقاله مرة، بل لاحقوه بعد أن “تحرّر”.
ضغطوا على عائلته. ساوموه. أغروه. وفي النهاية، قتلوه.
تلك سمة الأنظمة العسكرية:
- لا تغفر لمن يكتب.
- لا ترحم من يتذكر.
- لا تنسى من يُشهِر بها أمام العالم.
مازن الحمادة لم يكن فقط ضحية. كان شاهدًا، والشاهد أخطر من أي مقاوم مسلح.
خاتمة: الصوت الذي لا يموت
مازن الحمادة ليس قصة منتهية.
هو مرآة لكل معتقل صامت، ولكل جلاد جبان، ولكل سلطة تخاف الكلمة.
مازن، بموته، قال ما لم يُقله أحد:
“يمكن أن تسحقوا جسدي، لكن لن تنتزعوا الحقيقة من لساني.”
لقد قاوم حتى النهاية، لا ببندقية، بل بكلمة.
كلمة مثل تلك التي حاربها ممدوح عدوان في “حيونة الإنسان”.
كلمة قُتلت… لأنها كانت تُحيي من حولها.